هذا الكتاب هدية مني إلى أحبتي في هذا الملتقى الفريد، أرجو أن ترقى إلى تلطعاتكم، وسمو علمكم،
بسم الله الرحمن الرحيم
استهلالالحمد لله الذي لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله عاقل عن علة فعله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء رحمة للعالمين بهديه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على طريقته ونهجه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يجزى فيه كل واحد عن سعيه. وبعد:
لقد شاء الله تعالى أن تكون عناصر مخلوقاته ومُشخّصات كونه الواسع مليئة بالمثاني من المتقابلات: الجميل والقبيح، القوي والضعيف، الخير والشر، الموجب والسالب، الإبليس والقديس، المؤمن والكافر، الشقي والسعيد، الذكر والأنثى، النجم والكوكب، الظلام والضياء... ليحافظ هذا الكون على تساوق وتوازي وتوازن مقوماته؛ وهو الأمر ذاته بالنسبة لكتاب الله المنزل، فهو مليء بذكر هذه المتقابلات، من ذِكر الجنة والنار، وأخبار الأنبياء والأشقياء، والملائكة والشياطين....إلخ. فهذا الكون المديد من خَلقه وفِعله، وهذا القرآن المجيد من كلامه وقولِه، فدعانا سبحانه إلى الاعتناء بقرآنه الكريم تدبرا، بمقدار ما دعانا للاعتناء بكونه العظيم تفكرا، هذا كون منظور، وهذا كتاب مسطور، فأخبرنا سبحانه عن مشيئته الكونية التي ينبغي الإيمان بها، ومنها تقديره أن نكون مختلفين في ديننا، في ألسنتنا، في طبائعنا، في أعرافنا، في ثقافاتنا، وأخبرنا عن مشيئته الشرعية التي ينبغي العمل بها، من إيمان به سبحانه وامتثال لأوامره، ولسنة نبيه
يقول الحق سبحانه "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (1)
ويقول سبحانه: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"(2)
ويقول سبحانه: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (3) ،
ويقول سبحانه: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ "(4)
ولهذا باءت بالفشل كل محاولات تنميط العالم، وتوحيد طابعه، وطمس فسيفسائه، وجعل الناس على فكر ودين ولسان ولون واحد، لأنه مخالف لسنة الله في خلقه ومشيئته لهذا التنوع والاختلاف، فالخير والشر والجميل والقبيح.. عناصر موجودة إلى يوم القيامة، فكيف يكون الفكر واحدا والعقول متعددة، فالفكر الواحد يقتضي وجود العقل الواحد، والعقل الواحد لا يكون إلا عند الإنسان الواحد، وهذا ممتنع مستحيل مخالف للواقع فنحن شعوب وقبائل، والدليل على بقاء هذا الاختلاف إلى يوم القيامة قول النبي
"تقوم الساعة والروم أكثر الناس" (5) ، بل إنه
لما أرسل كتابا إلى قيصر قرأه وطواه ثم رفعه، فلما بلغ ذلك رسولَ الله
قال فيه:(ثَبّت الله ملكه) (6) ، وعندما كان بعض الصحابة بالحبشة ورأوا من حماية النجاشي لهم وإنصافه، ثم ظهر رجل ينازعه الملك، ما كان منهم إلا أن تعاطفوا معه و دعوا له، تقول أم سلمة: فدعَونا للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين في بلاده) (7)
ولقد انتبه ابن القيم رحمه الله إلى ضرورة الاختلاف والتباين في الآراء فقال: (وقوعُ الاختلافِ بين الناس أمرٌ ضروري لا بُد منه لتفاوتِ أغراضِهم وأفهامِهم وقوى إدراكهم؛ ولكنَّ المذمومَ بغيُ بعضِهم على بعضِ وعدوانُه)(8)
فلما كان الناس - رغم كونهم مختلفين – اجتماعيين، يكتسبون طباعهم وثقافاتهم من محيطهم وبيئتهم، احتاجوا إلى قانون وشريعة تنظم لهم مقومات التعايش مع بني أجناسهم، لكي يُدفع التصارع والتصادم عند تماس وتقاطع المصالح والنوازع المادية والمعنوية، فأرسل الله سبحانه الرسل بالشرائع لتربط علاقة الإنسان بخالقه سبحانه ولتنظم له علاقاته داخل المجتمع الذي يعيش فيه. وبهذا كانت حاجتنا في بلاد الغربة – كما في بلداننا الإسلامية - إلى التواصل والتثاقف مع الآخر، من أوجب الواجبات وآكد المسؤوليات التي ينبغي أن نستجيب لـها، فلا يمكن للمغترب أن يعيش بمعزل عن أقرانه من بني البشر، دون أن يتفاعل معهم ولا أن ينفعل لحاجياته إلى هذا الاجتماع.
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (9)
فالشهادة على الناس في قوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا" (10) تقتضي بل وتحتم المخالطة والمعاينة والمشاهدة وتطرد وتـمُج الانعزال والانغلاق والانكماش، حتى لا نكون شهداء زور نُـدلي بشهادات عن غير علم. وخصوصا وسط هذا الانفتاح الحضاري الكبير بجميع منتوجاته الفكرية والمعرفية والثقافية والتقنية التي خرّجت حياة الإنسان من بسيط الماضي إلي مركَّب الحاضر، حيث تعقدت اختيارات الإنسان في كل مناحي الحياة الدنيوية غاية التعقيد.
وبعد أن نجح المسلمون منذ الجيل الأول بامتياز في البرهنة على قدرتهم على التعايش مع الآخر، والقبول بالآخر، فعاش في ظلهم الأقليات من النصارى واليهود بل والمجوس وغيرهم متمتعين بكل أنواع مقومات حركة حيواتـهم الدنيوية والأخروية، يقف المسلمون الآن وهم أقلية في بلاد الغرب أمام نفس التحدي، وعلى نفس القدر من المسؤولية، فعليهم أن يبرهنوا على الشيء ذاته، على القدرة على التعايش مع الآخرين والتعاطي معهم بكل إيجابية؛ وتمهيد وتعبيد الطريق لأجيال المسلمين القادمة. وخصوصا أن الجيل الأول الذي قدم إلى أوربا وأمريكا هم حاملو طينة الدين والثقافة والتقاليد من بلداننا الإسلامية، وهم الشهداء، بل والمسؤولون على نقل مشعل ما أتوا به إلى أجيالهم من بعدهم وإلى جيرانهم من غير المسلمين.
وعليه، فإن الشيء الممكن والمقدور على حمله إلى الآخرين، وكذلك المشترك بين الرجل والمرأة والكبير والصغير والمثقف والعامي والمتعلم والأمي هو الجانب الأخلاقي الذي هو بابنا الموجود ومدخلنا الوحيد في هذه الأيام إلى عقول وقلوب الغربيين ليتعرفوا على ما نحمله من قيم دينية وثقافية ومعرفية وتاريخية.. بل إن الأخلاق عنوان ودليل على ما نحمله من ثقافات جيدة أو رديئة، نفيسة أو رخيصة، فبأخلاقنا يتعرفون على تضاريس ومُشخصات حضارتنا، فإن ساءت أخلاقنا ساءت سمعتنا، وإن ساءت سمعتنا، نكون قد برهنّا على فشلنا في الدخول إلى قلوبهم، ونجحنا في صدهم عن سبيل الله، وصرْفهم عن سبل التواصل.
(5) رواه مسلم (شرح النووي 18/18)، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس عن المستورد بن شداد القرشي.
(6) رواه البيهقي في الكبرى (9/177)، وفي معرفة السنن والآثار 7/106، والشافعي في الأم (4/171) بلفظ "يثبُت ملكه"، وابن الأثير في أسد الغابة (1/335)، والذهبي في تاريخه (2/511) ط دار الكتاب العربي ط 1987. ورواه أبو عبيد في الأموال (1/54) من مرسل عمير ابن إسحاق بلفظ: كتب رسول الله إلى كسرى وقيصر ، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم وضعه ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال : « أما هؤلاء - يعني : كسرى - فيمزقون ، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية »
(7) رواه أحمد (1/201-202) عن يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن اسحق حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة رضي الله عنها، وقال الهيثمي في المجمع: (6/24) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، وابن هشام في سيرته (2/182).